تحت المظلة

. .

 

 

لم يكن الإلتقاء تلقائيا .
كان عسيرا كإحتضار أم تصوم للمرة الثانية ..سنابل الناحية الجنوبية لقريته بدأت تدغدغ مشاعره ، وتهزه للعودة لأخذ صورة تذكارية قرب البئر ..
الرسالة التي تلقاها أمس تحمل طيفا خافتا عن أخبار القرية وقد اجتاحها الجفاف منذ سنين ..( نهرات ) أبيه تشجعه على الرد بواسطة رسالة مسجلة مرفقة يثلث مرتب يتقاضاه من مؤسسة يتعامل معها حرا ..

غبار الماعز المعفر بالوحل على مشارف القرية أصير يؤلف في وجدانه سمفونية لا تنتهي . مشحونة برفض للمدينة القاتمة نهارا ... الزاهية بين العصر والمغرب ..صنوف البشر بلا مغزى على الأرصفة لممتدة كهتارات ( الوقف) كما ظل يتخيلها تذكره بالجراد أيام اجتاح القرية ، فجعل محاصيلها كعصف مأكول ..جبال الرمان في الساحة العامة للقرية ، وهي تنقل على الشاحنات لتسوق تهز أوتاره ...ترجعه إلى طفولته ..تنتصب أمامه كرمز تذكاري ألعابه المفضلة (طروز الخير ) ( الشايح ) ( أحجرة وسرات ) ..
يستحضر ( القلعي ولد صفية )و( حمي حو) وكل الرفاق الذين كانوا ينافسونه في لعبة(النيبلي ) و( الكعب ) فيهزم كلما تبارى معهم .. كانوا مفتولي العضلات بالرغم من صغر سنهم ..وكانوا كلما حاول الاعتداء عليهم أو الإستنجاد بأخيه الأكبر يرهبونه بعبد الكريم الملقب(للان ) فينكمش مذعورا كأرنب تحسس وقع الصياد بالقرب من مخبئه ..
قارن أضواء المدينة المتلألئة بأزقة (ريان ) ( المنضح ) ( بوقال ) انتصبت الأزقة أمامه .. فكان الصمت والدوران يخترقان كيانه ،تدحرج من سلم أفكاره كقطة وديعة ،طلب أحد الواقفين في ظنك جريدة كان يتصفح بها القسم الرياضي ..إلتهم كل ما في صفحتها الثقافية ، حتى الإعلانات عن آخر الأفلام ..وبحركات رتيبة ناولها لفتاة تجلس قرابته ..أشارت بيدها للجريدة ،ففهم أنها تقصدها ..شعرها الليلي المنسدل يغطي رقبتها من الخلف ..تعلوه شعيرات مصبوغة بصباغة مغايرة تكاثفت حول خصلتها ..تسدل قطعة قماش حريرية على جسدها ..يتسلق مرة أخرى تأملاته ...محاولا الإبحار في عالم ظل
يختزن أجزاء كبيرة من عالمه الطفولي .. وعلى التو انتصب أمامه الريف بنقائه وصفائه . حتى جلسات الشيوخ العجزة على عتبات الدكاكين . موزعين حسب سعة كل عتبة ..وهم يعرضون للشمس أجسادهم المصابة بالروماتيزم ..لكنه طردها فيما بعد متعمدا ذلك ..
القطار يعج بالفتيات ،وعشرات المظلات موضوعة على الرفوف ،أو تطل قبضاتها من زوايا المحافظ ..وزع نظراته عليهن دون إستثناء ..إلا من تغيب منهن في الزحام .
القطار قادم من ( باب الزوار ) بضواحي العاصمة الجزائرية ..هكذا قال أحد الركاب ..؟؟.
استقل هو القطار من إحدى محطات العاصمة ،، نفر من الطلبة يخوض في حديث حول التصحر والنزوح الريفي .. وما آلت إليه الهجرة الريفية ،ينتهون إلى القول بأن ظاهرة النزوح تشكل إحدى العقبات أمام تنمية البلاد .
إلتقط كل ما قيل في هذا الشأن ..
كان الموضوع شائكا وحادا ..تضاربت فيه الآراء إلى أن لفظهم القطار بإحدى المحطات ،فيما ظل يصارع كيانه المتأجج بين الوفاء ( ليمينة ) طاعة لأمه التي آثرتها زوجة له على بنات الجيران والقرية . كانت تتمنى أن تكون من نصيبه عائشة فاتنة الشباب بالقرية ، لكنهم ضبطوها مرة مع رجل غريب قرب الصفصاف ،، وبين افتكاك نظرة أو إشارة من الفتاة التي ناولها الجريدة ، نسي هواجسه ،لولا موضوع الطلبة الذي لفح وجدانه كما تلفح الشمس في يوم قائظ وجوه الفلاحين ..عاوده الهاجس ..استسلم له في ارتخاء ونشوة .
راح يردد :
( أحجرة وسرات ..
( ما مشات ..ما ولات . ما بقى للذئب وين يبات .. ) -1
غناها سرا بموسيقاه ولحنها الإيقاعي تماما كان يحفظها في صغره ..رفقة الصبية وهم يتحلقون حول المخطيء منهم في معاينة مكان ( الحجر ) ، وأردف '' عامي السادس عشر ..
يوم فتحت على المرأة عيني ..
يومها .. واصفر لوني ..
يومها ..درت بدوامة سحر ..
كان حبي شرفة دكناء، أمشي تحتها ..
لأراها ..
لم أكن أسمع منها صوتها ..
إنما كانت تحييني يداها ..
كان حبي أن تحييني يداها ) -2
ازداد ولعه ( بيمينة ) بالرغم من أنه لم يكن يلتقي بها كثيرا ..كان جسمها وشعرها يلمعان من بعيد كلما هرولت ،تدك الأرض برجليها خوفا من معاكسة شباب القرية ..
أمي حدثتني كثيرا عن جمالها ، تأتي في المرتبة الثانية بعد عائشة .قالت : عيونها كعيون المها ، شعرها كالسنابل ،يستسلم كثيرا للريح والنسيم ، وهكذا قالت أمي ، لكن من يصدقها ، أواه ،هذا لا يقنعني حتى أنظر فيها مليا ،، وأعرف وجهات نظرها في الحياة ..لكنني .. ويا للبلادة التي أصابتني ،فأية وجهة تختزن ،إنها أميّة ، لن تفكر إلا في إنجاب الأطفال مع المشاكل ؟ ومقاطعتي بالفراش عندما يتقدم بي السن ..أو ربما قبل ..شأنها شأن أغلب نساء القرية.. لكن حتى لو قُدّر لي وأن أتزوجها ،سيكون من بين ما أفكر فيه قبل كل شيء تطعيمها - بشكل مفرط - بأقراص منع الحمل ..
وتعليمها ، أو إطلاعها مبدئيا على شؤون العالم السياسية على الأقل ،فإذا تأخرت عن موعد نشرة الأخبار ،توافيني بتفاصيلها .
-أواه - راني غير نخرط ..
( اللي كبر وعصا ما تسد فيه عصا ) .
أنا مثقف ، وهي أمية ،لا أشك إطلاقا في تقارب وجهات نظرنا حول هذه الحياة المعقدة ،المليئة بالتناقضات والذئاب ..
- هي (تسلكها ) في المدينة ؟ لا أعتقد .
- دعني منها .
- - سأجرؤ هذه المرة على كتابة رسالة أخرى لأمي ، أبعثها إلى البشير ، الكاتب العام بالبلدية ، حتى لا يراها أبي ، هو يقنعها بدون شك .. كانت ( تعقّدني ) به كثيرا عندما كنتُ في المرحلة الابتدائية ..حدثتني كثيرا عنه ،وأغرتني غير ما مرة بمرتبه ومنصبه ، إنها تضعه في مرتبة مرموقة .
- ما زلت أتذكر قولها ( اقرأ باش تولي كي البشير ولد إبراهيم ، هو راه يخلص الخير والبركة..في الشهر ، حتى زوجته راها تتكبر علي، وعلى نساء القرية في الحمام ،، ،إخصها تتكبر علي ،أنا عندي ولدي بغى يولي جنيور(مهندس) ..
- البشير متفتح، يقرأ الجريدة كل يوم .. ويسمع إذاعة ( فرانس أنتيرن- الفرنسية ) ،يلمّع حذاءه كل صباح ، ولا ينسى رابطة العنق .
- وظل نص الرسالة يحوم في مخيلته ،فكانت من بين فقراته :
- (( أمي العزيزة ،، إنني على وشك الحصول على منحة للدراسة بالخارج ، سأغيب أربع سنوات كاملة ،، سأردمكم بالألبسة، أنتم وأبناء خالتي وزوجها ...قبل قدومي لتوديعكم ..أرجوك الا تركزي كثيرا عيونك على ( يمينة ) .. سنتحدث أكثر فيما بعد ...لا تخبري أبي.. إلى اللقاء)) .
- ويخترق مسمعه همس خافت مع لحاظ نفذت إلى أغواره ، ينتشله من غيبوبته .:
- - شكرا ..

- لم يرد ، حبس الرد في حلقه ، وفات الأوان .
- وهي تتلمس محفظتها ، تمرر منديلها على شعرها ، تنزع المظلة من غمدها تأهبا للنزول .. طوى الجريدة ، ثم فتحها ، وبالضبط في صفحة وقفت عندها ليا ، لعلها تناقشه أو تسرق نظرة تجاهها .لم تفعل . قال لها :
- - أن.....إنها ...إنها ليست لي، خذيها ( صاحبها نزل) .وهي تداعب زر المظلة :
- - شكرا ، قرأتها .
- زخات المطر ظلت تنقر النوافذ كجدي صغير يداعب أوراقا خريفية تكاثرت ..اختلط الجمع أبواب الأبواب ..صفير القطار وتوقّف عجلاته يؤذنان بالضغط على أزرار المظلات لتملأ السماء أنوانا سوداء وبنفسجية ، محفظته السوداء المعبأة بالوثائق والكتب تغطي جزءا من شعره الأشعث المبلل ..
- كسا الركاب الأرصفة .. تسابقوا إلى أبواب الخروج الضيقة ،يتناطحون بمناكبهم وقد أرخوا مؤقتا مظلاتهم ..
- يدفعها من الخلف دون أن يعبأ :
- - سامحيني .
- - السماح .
- - تفضلي ..
- - شكرا ..
- يخرج الجمع ثانية إلى الواجهة الأخرى من المحطة ، لم تكلمه ، فكان تحت مظلتها كأنه يركب طائرة من نوع (البوينغ ) ..قطعا شوطا كبيرا على الرصيف الأيمن المؤدي إلى مدخل أحد الشوارع الرئيسية ..
- كان طويلا ، أسمر بعض الشيء ،يرتدي( جاكيته) رمادية ..كانت أقصر منه بقليل ، تلفُّ خصرها قطعة قماش باهت .. نهداها نافران من ضغط ( الصدرية ) وآخر مرمي على أكتافها .. حاجبها حليق حديثا ..
- تعثر .. لم يتعمد ذلك ؟؟.
- قالت :
- - أستار
- رد : يا لطيف ( مرات ) الإنسان يلعن البلدية بالرغم منه ، ثم أردف :
- -يبدو أن المطر يسقط بغزارة ، لم يكن يسقط هكذا ونحن داخل القطار .
- -كان غزيرا ، لم تعبأ به ،كل النوافذ كانت ''( ضبابا ) من ( زخاته ) ..يحاول استدراك ما صدر منه:
- - حقا ، كان غزيرا ، أنا فقط كنت شاردا ، وكنت أتتبع معك الجريدة من بعيد ..
- ينقطع الحديث، ويلفهما صمت رهيب ..
- نقرات المطر فوق سطح المظلة ظلت تلحن سمفونيته الخالدة ، تُوقّعها لمسات المنكبين ، ورعشات جوارحه .
- سألته:
- - إلي أين أنت ذاهب ؟
- - وأنت ِ؟
- - إلى محطة الحافلات ..
- لم تسأله عن وظيفته لأنها ( رمقت ْ) المراقب وهو يستطلع بطاقته البرتقالية، فعرفت بأنه طالب جامعي ..
- حصل له نفس الشيء..
- الأقدام تختلف ، والمظلة تتأرجح كهودج يحتضن عروسة بدوية في فيافي الصحراء ..وبعد تردد كبير سألها : .
- - لكن لا أعرف أسمك ..
- - يمينة - وكررت طالبة - سنة رابعة - علم إجتماع .
- - محمد،سنة رابعة -آداب .
- وقع الإسم عليه كالصاعقة ، وعلى الفور اقتحمت أجواءه الوجدانية ( يمينة ) القروية بشعرها السنبلي الطويل كما كان يتراءى له عند البئر ..أو كما حدثته أمه ، اختلس لحاظا ليميز خصلتها بدقة ، سرعان ما أطرق عندما وجدها تحدق فيه .
- قال : والله وسكت ..
- لم تعي كنه ما صدر منه ، كانت تعتقد أنه زفر ، أو تنهد ..وكانت تتزاحم بداخله كلمات مبعثرة ، تحاول التملص من مكامنه ، لكن شيئا ظل يخنقها..حاور نفسه ..
- لم يدر لماذا تلعثم أمامها بالرغم من أن يعيش بالجامعة وفي فوج نصفه بنات ..وكما لندى في الفجر يوزع قطراته على الأزهار الصغيرة، إنتقى أعذب الجمل وقد رشحها لفتح حوار لا ينقطع ..
- - يمينة ..
- وأوقفتهما إشارة الضوء الأحمر ، ولفهما الصمت من جديد ..
**** ******
الجو لم يتغير ،، ما تزال شرفات العمارات تبلل أكتاف من لم يحظوا بالإحتماء تحت مظلة .. حملق فيه بكبرياء .. تخيل نفسه أميرا للرعية .. لم يجد لحظتئذ أي فرقي ميزه عن هارون الرشيد ، وتخيل ( يمينة ) القروية قردا يقضم بقايا التفاح في حديقة قصره ..فزاد انتشاؤه أكثر ..
يختلس إلتفاتة إلى أناملها وهي تشد على مقبض المظلة بإحكام ـ ترمقه ،فيكنس بناظره المحلات وصنوف السيارات ،وهي تقطع الخطوط الصفراء .. بسرعة خوفا من صفارة الشرطي ، لم تنج واحدة دون أن يكنسها بنظراته الشاردة ، حتى المارة على الرصيف المقابل استرق ملامحهم.. لم يعد العالم يسعه ،( لا بعرضه ولا بطوله ) ..وتقلصت نظراته للنزوح الريفي،بل لفظه كمصطلح ، وأعتبره من زوائد النظريات والأطروحات الباطلة ..
أذِن لهم الشرطي بقطع الطريق
كانت الخطوط الصفراء تحت وقع أقدامه بساطا أحم يؤدي إلى قاعة شرفية بإحدى المطارات ، أو فراشا مبتوتا بأحد القصور..
طوى الزمن دقائق من دفاتره ..
استوقفته :
- هنا ننتظر الحافلة بعيدا عن الناس .
- قال وقد استرجع ثقته بنفسه :
- - يمينة ،لم نتحدث بعد عن أمورنا الخاصة ؟ .
- بدون خلفية تجيبه :
- - ما هي هذه الأمور ؟ ..
- -كأن نقول مثلا ....
- وغلبه البكم ..
- تقاطعه بكل رزانة :
- - لا أظن أن طلبة البلدان الأخرى يعانون مثلنا من مشاكل النقل ..ووقوفنا هنا تحت المطر ،أهذا الذي تقصده ؟ .
- لم يستطع النفي تحت وقع ردها الذي صعقه :
- - بالضبط ،،هذا ما كنت أقصد ، لكن ثمة أمورا أخرى تشغل بالنا ..
تقاطعه:
- ما عسانا نفعل يا أخي أمام ندرة الكتب والمراجع ، وقد أضحت إحدى العوائق تقدم بحوثنا ..
- همهم بداخله :
- - آه، يا رب ، ما هذه المصيبة ، لم تفهمني بعد ، أو تتظاهر بذلك .. النساء خبيثات ،يفهمن كل شيء، لكن يتجاهلنه ، أو ربما لم أفصح .. هذه المرة أفاتحها في الموضوع ، وليكن ما يكن .
- - يمينة ..
- - نعم يا أخي ..
- ما زالت تنعتي بأخيها ، ثم أردف : .
- - إلى جانب ندرة الكتب ، هناك أزمة غرف بالأحياء الجامعية ، تصوّري أنني لم أحصل هذه السنة على غرفة ، ولولا أحد أقاربي أشغل شقته ،لعشت متسكعا ، أوصاني ألا أقبل زيارة الأصدقاء والطلبة ، ففعلت ، أعيش فيها بمفردي .
- لم تعلق ،وتلفتت صوب حافلة ظنتها تعرج على المحطة ،لكنها أخذت وجهة أخرى .
- اجتياح صوت من الخلف يمزق سكونهما :
- - اسمحي لي، تعطلت بعض الشيء ..
- - انتظرتك ساعة بأكملها يا كمال ..
- أمي قررت ْ زواجنا بعد مناقشتي مباشرة لرسالة الماجستير ،ما رأيك يمينة ، نعقد من الفرح فرحين ..
- ابتلعتهما الحافلة الهشة ..توارت بالشارع المنحي ،تزفر كشيخ مسن ..
- خاتم الخطوبة كان يلمع كالشعر السنبلي..
- وكان المطر يهطل بغزارة.